ملوال دينق
ربما يبدو السؤال غريباً بعض الشيء، إذا دلَفَ إليه القاريء من زاوية “مكان تواجد الكابتن ريتشارد جاستن”، سيما أن قطاعاً كبيراً من الرياضيين يعلم أنه مستقر في العاصمة جوبا منذ سنوات ممارساً حياته بصورة طبيعية، ولكن هذا المقال يحاول تحليل وضعية الكابتن ريتشارد في الساحة الرياضية في جنوب السودان، وتحديداً ساحة كرة القدم التي يعد من أسمائها البارزة وأعمدتها الأساسية.
لا خلاف كبير حول تميز الكابتن ريتشارد طوال مشواره الحافل في ملاعب الساحرة المستديرة، والحديث عن سيرته ومسيرته في المستطيل الأخضر هو “حديث ذو شجون” يستدعي الكثير من الذكريات والمواقف الخالدة في الذاكرة لمن عاصر سنوات نشاطه وعطائه، سواء مع الأندية التي لعب لها وفي مقدمتها الهلال السوداني أو مع منتخب السودان الأول، ومنتخب جنوب السودان بعد الإستقلال (في عام 2011م)، وعدد قليل من اللاعبين، من ضمنهم ريتشارد، هم من نالوا شرف تمثيل صقور الجديان والنجوم الساطعة، كما لا ننسى تجاربه القصيرة في الإسماعيلي المصري والمريخ السوداني والخرطوم الوطني والملكية جوبا وغيرها من الأندية التي دافع عن ألوانها، وريتشارد يعتبر من اللاعبين (الجنوبيين) القلائل الذين تركوا بصمة خاصة في تاريخ الكرة السودانية على الصعيد المحلي والدولي، إلى جانب نجوم أخرى مضيئة في سماء كرة القدم مثل حارس الهلال والمنتخب السوداني الشهير يور أني أجوانق، والكباتن إدوارد جلدو، جيمس جوزيف، أتير توماس، وجمعة جينارو، وكلهم تألقوا بدرجات متفاوتة في مسيرتهم، مع كامل تقديرنا للاعبين الآخرين الذين اجتهدوا وقدموا مستويات لافتة مع الأندية السودانية بعيداً عن فريقي القمة (الهلال والمريخ) أو خلال التجارب الإحترافية القليلة خارج البلاد.
هذه المسيرة الطويلة للكابتن ريتشارد و التي اختتمها في جنوب السودان، بعد أن راكم خبرات وتجارب ثرة، كانت تبشر بأن الساحة الرياضية موعودة بكادر نوعي من طراز رفيع سيتولى أدوار رئيسية في أحد مجالات كرة القدم سواء أكان في التدريب، الإدارة، التحليل الرياضي، أو غيرها، أسوةً بما يفعله النجوم الكبار في بلدانهم بعد الإعتزال، مع مراعاة خصوصية كل بلد، وهناك أكثر من نموذج في دولة السودان التي أمضى فيها ريتشارد أفضل سنوات عطائه في الملاعب من تجارب زملائه القدامى الذين اتجهوا إلى التدريب والإدارة والتحليل الرياضي ويسيرون فيها بثقة وثبات ومثابرة في مسار النجاح، ولكننا بعد سنوات من اعتزاله، لم نشهد بعد أي نجاح جديد للكابتن ريتشارد جاستن في المجال الرياضي، ولم نشهد له أدوار رئيسية، كما لم نلحظ منه أي ملامح لمشروع وبرنامج رياضي واضح المعالم جرى أو يجري تطبيقه، وهو ما جعلنا نتسأل ومن خلفنا الجمهور الرياضي “أين الكابتن ريتشارد جاستن؟!”.
هل تعمد البعض تغييبه عن شغل أدوار رئيسية بعد أن انتقل صراع الكراسي من السياسة إلى الرياضة؟ بل انتقل الساسة أنفسهم بعقليتهم الإقصائية إلى الرياضة؟ أم اثر بنفسه الإنزواء والإكتفاء بمهام ثانوية إن لم نقل هامشية؟ وهل استعد ريتشارد جيداً لفترة ما بعد الإعتزال بإعداد خطة وبرنامج عمل؟ أم أنه لا يملك خطة أصلاً؟ ومن الخاسر والمستفيد من الوضعية الحالية للكابتن ريتشارد جاستن؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، يجب أولاً أن نلقي الضوء على مسيرة ريتشارد بعد الإعتزال وتقييم تجربته القصيرة في مجال التدريب والإدارة، فقد دخل مباشرةً بعد إنتهاء مشواره في الملاعب عالم التدريب وأشرف على بعض الأندية في الدوري المحلي بجوبا، إلا انه لم يوفق كثيراً، كما حاول تجريب العمل الإداري عبر خوض غمار الإنتخابات رفقة الرئيس الأسبق للإتحاد شبور قوج للدخول إلى الإتحاد العام، ولكن هذه المغامرة أيضاً وُئدت في المهد، ومؤخراً طالعنا في الأخبار خبر إختيار ريتشارد جاستن كرئيس لرابطة قدامى اللاعبين، ثم مسؤولاً عن كرة قدم الصالات في الإتحاد العام.
بالتأكيد هذه النظرة الخاطفة لمسيرة الكابتن ريتشارد بعد الإعتزال، وما شابها من تخبط واضح يجعلنا نشك في وجود خطة ومشروع معد مسبقاً لقائد منتخبنا الوطني السابق يمشي عليها ويعمل على إنجازها، بينما يبدو كمن يعمل بنظام (رزق اليوم باليوم) وهو ما لن يفيده في شيء، وحتى نستدل على ذلك بمثال، دعونا ننظر لتجربته القصيرة في التدريب، فالحصيلة المتواضعة ثم الإنسحاب بعد ذلك، يثبت لنا أن ريتشارد لم يكن جاهزاً بعد للتدريب، ولم يعد نفسه لهذه المهمة الصعبة التي تتطلب التأهيل والإستعداد والرؤية الفنية، وهو سيد العارفين، كما يتطلب العمل الإداري تطوير القدرات وبناء الذات قبل تولي أي مسؤوليات رياضية كبيرة.
الوضعية الحالية لريتشارد جاستن في الساحة الرياضية، لا تليق بإسهاماته المعتبرة في كرة القدم ولا تليق بمكانته كقائد تاريخي للنجوم الساطعة، فهل كرة قدم الصالات التي أوكلت إليه إدارتها هي الموقع المناسب له، بينما هناك مَنْ يتبوأون مناصب عليا في الإتحاد العام ممن لم يركلوا الكرة يوماً على المستوى الإحترافي ولم نسمع لهم أي نجاحات إدارية، وهل رئاسة رابطة قدامى اللاعبين – على أهميتها – يعتبر المكان المناسب لريتشارد؟ بينما القيادة الفنية لمنتخباتنا المختلفة أصبحت ساحة مفتوحة لكل من يريد أن يجرب حظه في مجال التدريب.
قد يقول قائل، أن نجاح اللاعب في الميادين لا يضمن بالضرورة نجاحه في مجال التدريب أو الإدارة، وهذا صحيح تماماً لكن في المقابل تقوم البلدان والجهات المعنية بتهيئة البيئة والمناخ المناسبين للمبدعين في شتى المجالات للإستفادة من خبراتهم ونجاحاتهم وإلهام الأجيال الجديدة وتحقيق التواصل بينهم، واستخدامهم في الترويج والتسويق وخلافها.
لا شك أن ريتشارد نفسه قبل أي شخص آخر، لعب دور في هذا التهميش الذي يتعرض له، إذا كان دقيقاً وصفنا لوضعه بأنه (تهميش)، بسبب إفتقاده لروح المبادرة والطموح على الأقل في تخطيط مستقبله الرياضي بعد الإعتزال، فلا يعقل أن يكون أحد أهم اللاعبين في تاريخ بلادنا بلا أي أهداف واضحة تاركاً نفسه رهين تجاذبات الأطراف المختلفة، بخلاف صمته المتواصل وعدم تفاعله مع الكثير من الأحداث الرياضية وإكتفائه بلعب دور المتفرج.
وفي كل الأحوال، الخاسر من هذه الوضعية هو ريتشارد جاستن نفسه، ثم منشط كرة القدم الذي كان يرجي منه الكثير، بينما المستفيدين هم الدخلاء الذين اقتحموا الساحة الرياضية من كل حدب وصوب في وضح النهار.
ختاماً، لم نكن لنكتب هذه السطور، لو لم يكن يهمنا مصلحة الكابتن ريتشارد جاستن، وقيل أن “العتاب دليل محبة”، لذلك نناشد ريتشارد بمراجعة وتقييم التجربة الحالية، وتدارك الأمور قبل فوات الآوان، والتصدي للمسؤولية وزمام المبادرة بهمة وجلد مثلما عاهده الجميع في الملاعب، وكذلك تحديد الأولويات والأهداف ورسم المستقبل بدقة، وتأهيل وتطوير القدرات في مجال التدريب والإدارة، وترك (المسكنة) الزائدة.
وقتها، لن نسأل مرة أخرى “أين الكابتن ريتشارد جاستن”، وأين”قلب الأسد”، لأنه سيكون من ضمن الأسماء الأساسية في الساحة الرياضية في جنوب السودان، وفي الأثر “الأسد يمرض لكن لا يموت”.